ورشة القولبة بالقصر السعيد: اكتشاف جانب من قدرة الإنسان على استعادة شواهد من التّاريخ عبر الاستنساخ
يمكن للمرء حين يزور ورشة القولبة بمركز الفنون والثقافة والآداب بالقصر السّعيد أن يكتشف أن الإنسان قادر على أن يعيد تجسيد جانب من التّاريخ، وأن ترى عينيه قطعة أثرية مستنسخة تكاد من شدّة صدقها أن تجزم بكونها أصلية.
بإحدى القاعات الجانبية بالقصر السعيد بباردو تقع ورشة القولبة والتي تتيح عملية استنساخ القطع الأثرية أو ترميمها، وتعتبر هذه الورشة الوحيدة بالمعهد الوطني للتّراث تحت إشراف دائرة التنمية المتحفيّة المختصّة في استنساخ القطع الاثرية من المتاحف،
هذا الاختصاص يشمل جميع المعارف والمهارات والخبرات الفنية من نحت ونقش وتزويق وترميم وتذهيب وسبك للمعادن وصيانة لبعض القطع الثمينة.
وللتعريف بهذه الورشة، التقينا السيدة كريمة القمري المتحصّلة على الإجازة التطبيقية في فنون الزخرفة من المعهد العالي لمهن التراث والماجستير المهني المطبّق على الصّناعات التقليدية وماجستير بحث في علوم التّراث وهي كذلك متخصّصة في فنّ القولبة يساعدها في ذلك زميلها السيد عبد الكريم الشّابي، والذين اختارا الغوص في هذا العالم الشيّق، عالم يحتاج دقّة ومعرفة وصبرا طويلا، حيث قد يستغرق استنساخ قطعة أثرية شهورا وأحيانا سنوات.
تنطلق مراحل إنتاج نسخة من قطعة أثرية أصليّة من الجانب النّظري الذي يتيح مهمة تحليل القطعة الأصلية وتحديد أبعادها، ونوعية القالب المناسب وذلك قبل الانطلاق في الجانب التطبيقي متعدد المراحل، والذي قد يصل إلى 25 مرحلة للوصول إلى الهدف المنشود وهو إنتاج قطعة مقلّدة أو مستنسخة.
يمرّ عمل المختصّ في القولبة من الجانب النظري إلى التطبيقي بالتثبيت، وصناعة جدار من الطّين أو الّصلصال لتكوين القالب الخاص الذي سيتم اعتماده.
نغطّي اثر ذلك القطعة بمادّة عازلة لحمايتها قبل المرور إلى مرحلة السّحب واستخراج النّسخ حسب الطّلب إما بمادة الجبس أو “الريزين” وهي مادة بلاستيكية.
بعد صبّه بالقالب وانتظار أن يجفّ يتولّى المختصّ في القولبة عملية التزويق الدقيقة لتضفي على المنتوج مسحة القدم وتظهر آثار الزمن عليها بطريقة مفتعلة واصطناعية والعمل على اختيار اللون المطابق للون الأصلي للقطعة.
كل هذه المراحل وغيرها إذا تطلب الأمر تنتج نسخا أقرب ما يكون للأصل، وتستخدم هذه النسخ إن كانت تسحب عدد كبير او صغير، لمزيد التعريف بثراء الشواهد التاريخية والأثرية للبلاد التونسية، في سياق عمليات بيع منظمة للترويج السياحي او المحلي، وقد تستنسخ القطع الأثرية لغاية حفظ القطع الأصلية من التلف، ولضمان ديمومة عرضها في تجوالها بين المعارض المحلية أو الدولية، كما يمكن استنساخ قطع أثرية متقنة في إطار الحماية لقطع أصلية تعرضت للتلف وتحتاج أساليب حفظ علمية حتى يتدارك المختصون التلف الحاصل في القطعة المذكورة.
ويهتمّ علماء الآثار أكثر من أي وقت مضى بفن القولبة والاستنساخ الذي يعاضد الجهود المشتركة في صون التراث وتثمينه نظرا لأهمية هذا الفنّ ودقّة مراحل تنفيذه.